الكتاب المقدّس في ألف كلمة

يتكوّن الكتاب المقدّس أو “البيبِل” من 66 كتابا شارك في تحريرها حوالي أربعين كاتبا خلال ستة عشر قرنا من الزمن. يتألّف هذا الكتاب من جزئين: العهد القديم (ويضم توراة موسىى، والمزامير، وأسفار الأنبياء، إلخ) والعهد الجديد (ويشمل الأناجيل، وأعمال الرسل ورسائلهم وسفر الرؤيا).

******

يبدأ “البِيبِل” أو “الكتاب المقدّس” بوصف عمل الخلق. الله، القائم منذ الأزل، الممجّد، الوحيد في كونه سيّد وكلمة وروح. يتمتّع بسعادة مطلقة كاشفا عن مجده في إبداع هذا الكون. أسّس الزمان والمكان. ثمّ خلق رجلا وامرأة على صورته ومثاله، فأسكنهما في فردوسه. جعلهما تاج الخليقة، كي يعيشا في حضوره، ويمثّلانه على الأرض. وهبهما الخصب الفردوسيّ، والعلاقات البسيطة والمتجانسة.

لم يضع لهذا العالم قانونا محدّدا بل اكتفى بأمر واحد يقوم على الثقة بتوجيهاته الإلهيّة وعلى الإمتناع عن تناول ثمار شجرة معرفة الخير والشرّ، التي من شأن ثمارها الكشف عن صدقيّة الإنسانيّة نحو الربّ الإله. غير أنّ سرّا غامضا شوّش هذا المشهد وسببه الشيطان، هذا المخلوق الرهيب الذي تمرّد على خالقه وانغمس في تصدّيه للربّ الإله ولذويه. وبسبب مغريات هذا المخلوق، تمرّد الإنسان أيضا ضدّ الربّ، وأصبح معرّضا للموت. لذلك طُرد من الجنّة، فاضطُرَّ إلى الإبتعاد والهرب والتورّط في أمور كثيرة. وهكذا تشوّهت كثيرا الصورة الإلهيّة التي خُلق على مثالها. فبعد انفصاله عن الخالق، تيتّم الإنسان روحيّا وفقد انتماءه العائلي.

هذا التمرّد، وهو جوهر الخطيئة الأساسيّ ، مسّ الخليقة بكاملها، فانغمست في غريزة من نوع آخر، وأصبحت عرضة لآلم جامع شامل.

التاريخ يقترب من اختبارنا. هناك أشياء جميلة يمكن أن نعيشها، بالرغم من تلطّخها بالحسرات والخزيّ والشعور بالذنب. لذا حاول البشر إخفاء حقيقة طبيعتهم بالأقنعة المزيّفة التي لا تكفي لشفاء قلوبهم وآلامهم وعلاقاتهم ومشاعرهم. فأصبحوا حقّا يتامى.

هكذا تواصل تاريخ الإنسانيّة وعرف مأساة مجيدة عبر مصالحة وفّرها الربّ الإله لهؤلاء الناس المغرورين بحكم حبّه لهم. فوعدهم بمجيء إنسان جديد من شأنه القضاء على الشرّ وإعادتهم إلى حظيرته الإلهيّة.

تراءى الربّ الإله لإبراهيم وقطع معه عهدا يشمل كلّ الأمم. ومنذ ذلك الحين، جرى تنسيق كلّ شيء حول هذا العهد. فسبط إبراهيم، الذي عُرف ببني إسرائيل، جرى استعباده في مصر. فما كان من الربّ الإله إلاّ أنأ أرسل كليمه موسى لإنقاذ شعبه. سلّمه الوصايا ذات الجوهر البسيط جدّا، فأمره وأمر بني إسرائيل من خلاله: “أحبب الربّ إلهك من كلّ قلبك، واحبب قريبك مثل نفسك”. فكان الواجب على بني إسرائيل تجسيد سعادة العيش مع الربّ وتحقيقها في حياتهم. وللأسف، لم يستطيعوا فعل ذلك، بل فشلوا فشلا ذريعا.

غير أنّ وعد الربّ لم يزُل، بل بقي قائما واتّضح جليّا، إذ أرسل داوود، وهو راع، ليصبح ملكا على بني إسرائيل. جاء رمزا للمسيح، ملك الملوك، مبشّرا بمجيئه العتيد. وقد توالى من بعده عدد من الملوك لم يكونوا بغالبيتهم من الصالحين، فجرى نفي بني إسرائيل سبعين سنة إلى ارض بابل… كذلك أرسل الربّ أنبياء آخرين كي يبشّروا بمجيء المسيح الذي سيغيّر في البداية قلوب البشر قبل إقامة مملكته. هذا المسيح هو الفادي النهائي.

فصلت بين العهدين القديم والجديد أربعة قرون من الزمن. تبدّلت أثناءها ممالك الأرض ووقعت أحداث عديدة أدّت إلى سيطرة الإمبراطوريّة الرومانيّة على أرض بني إسرائيل. في تلك الفترة، حصل الأمر العجيب المنتظر، ألا وهو تحقيق وعد الربّ.

أرسل الربّ الإله كلمته الأزليّة لتتجسّد في أحشاء عذراء. إنّها علامة فائقة، مميّزة. هديّة غالية. هي يسوع. جاء ليدحض خبث المرائين، ويحرّر المظلومين، ويشفي المرضى والمعاقين. فكشفت معجزاته عن عظمة قدرته وسلطانه.

بدأ رسالته التبشيريّة، إذ قضى ثلاث سنوات يجوب البلاد كلّها. فاختار إثني عشر رسولا، علّمهم كي يصبحوا خير شهود على معجزاته، وبشارته، وتعاليمه، ومواعظه، ونصائحه وحبّه المجرّد الذي برز في إعادته الكرامة لكل من التقى به، كالمرضى، والغرباء، والنساء، والأطفال. فرأوا فيه مجد الله، ولكن دون أن يدركوا ما هذا السرّ العجيب الذي يحدث أمام أعينهم.

غير أن يسوع صُلب بأمر من الربّ الإله وبموافقة ضمنيّة منه. وهنا تكمن وتتجسّد ذروة العدل والحب. برز العدل في القضاء على الشرّ، شرّ أنانيّتنا واستقلاليتنا. حمّل الربّ على أكتاف يسوع كلّ تجاوزاتنا، وذنوبنا، كي يفتديها بموته. حمل عنّا كلّ مآسينا. أما ذروة الحبّ، فتوفّرت لنا عبر لطف الربّ وحنانه ومغفرته لخطايانا. فعندما أقبله في حياتي، سيوفّر لي الربّ حتما النقاوة والطهارة، يقبلني كإبن له، يحررّني من معاصيّ، يمحو خزيي، ويعفو عن ديوني. إنّه التبادل الكبير الرائع بين الخالق والمخلوق في عمليّة إنقاذ خلاصيّة مثاليّة متسامية.

هذا هو جوهر الإنجيل. يحاول اابشر، أينما حلّوا، كسب مكان لهم في السماء من خلال أعمالهم الصالحة، :وممارسة الطقوس، وتحمّل الآلام. أعلن يسوع على الصليب: “الآن قد تمّ كلّ شيء”. مات وقام من بين الأموات، وصعد إلى أبيه السماوي. إنّ يسوع الإله منذ الأزل، أصبح إنسانا بتجسّده. فهو باق إلى الأبد الإله الإنسان، والإنسان الإله، أي أفضل جسر بين الإثنين.

عاش يسوع حياة مثاليّة كان عليّ أن أعيشها

(ولكنّي لم أفعل).

عرف يسوع الخوف، والحكم، والخزي، والموت وكلّ ما كان عليّ أن أعرفه

(ولكنّي لن أتعرّض لذلك أبدا).

انبعث يسوع من الموت إلى حياة كان عليّ أن أعيشها

(ولكنّي سأعيشها في الأبديّة).

عاش يسوع حياته على الأرض لانقاذ حياتي. فلا قيمة لحياتي إلا عبر حياته!

يسوع هو القاضي الذي يدافع عنّي. يطلب منّي “فقط” الإقرار بفشلي الروحيّ، والإعتراف بثقة كاملة وشاملة في عنايته.

بعد مرور خمسين يوما على قيامته، تحقّق الوعد، إذ أرسل الربّ روحه القدّوس لكلّ من يختار يسوع المسيح مخلّصا له، فأصبح هذا الروح المدافع الثاني من خلال تسهيله مكاسب عمل يسوع في حياة المؤمنين. فهو يرافق، يعضد، يشجّع، ويهب القوّة… ويعيد صورة الربّ الإله إلى من يختار تقبّلها.

الشعور بفرح الاغتباط ينمو وينتشر. الرسل يعلنون عن حياة جديدة ومختلفة عبر الإندماج بيسوع، خبز الحياة، الماء العذب المحييّ، الذي يعطي حياتنا قيمة متسامية في علاقتنا مع الربّ الإله.

دون إكراه أو عنف، فقط عبر شهادة المسيحيّين، نشأت الكنائس في أورشليم، في أنطاكيا، في كورنتوس، في أفسس، وحتّى في روما. عاشت هذه الكنائس أفراحها وأوجاعها ومشاكلها. بعث الرسل إحدى وعشرين رسالة لإرشاد المسؤولين وتوجيههم، كي يتعمّقوا في رسالة الإنجيل وينمّوا الحبّ الإلهي في حياة الإنسان. الكنيسة عائلة، هيكل، جسد، قرين روحيّ يهزّ مشاعر الحبّ للفادي الإلهي. هكذا يتقبّل كلّ إنسان قدرة خاصّة كي يخدم الربّ والقريب معا. وهكذا يشكّل المؤمنون أسرة جديدة لا تعرف أيّ تميّيز عرقي، بل تسودها صورة الربّ.

الجزء الثاني من الوعد يكمن في عودة يسوع ليحاكم البشر، فيعزل من تخلّى عن الربّ، ويقيم ملكوت سلام شامل. سيزيل اللعنة ويُطهّر العالم من الفساد. سيمسح الربّ الدموع، وتستعيد جنّته أصالتها، ليكتمل سرّ الفداء. سنرى الربّ الممجّد السعيد وسط شعبه الفرح إلى الأبد.